د. أحمد بن ناصر الراجحي

دور السياسات العامة في دعم الاقتصاد الرقمي

من مقالات أمين مجلس إدارة جمعية الاقتصاد السعودية د. أحمد بن ناصر الراجحي في صحيفة مال | 01 سبتمبر 2021م

 

أطلقت المملكة العربية السعودية قبل أيام ثلاث مبادرات تقنية نوعية وهي؛ “قمة” و “همة” و “طويق”، بهدف دعم استمرار مسيرتها الحثيثة نحو بناء الاقتصاد الرقمي، والذي أكده تصنيفها في تقارير دولية على أنها من ضمن الدول الأسرع في التحول للرقمنة. وبالرغم من وجود تقاطع بين المبادرات الثلاث، الا ان كلاً منها تتميز بتركيزها على هدف استراتيجي محدد. فمبادرة “قمة” تركز على بناء مجتمع متفائل من خلال تجميع الرياديين “رواد الأعمال” في منصات مركزية تدعم المبادرات التقنية وتسهل إبرام شراكات دولية، في حين تركز مبادرة “همة” على دعم الابتكار وتنمية قطاع تقنية المعلومات من خلال تخصيص 2.5 مليار ريال لتحقيقها. أما مبادرة “طويق” فتركز على تطوير رأس المال البشري من خلال تعزيز المهارات في معسكرات تدريبية خاصة في تقنيات متقدمة يحتاجها سوق العمل و تنتهي بالتوظيف.

من الجدير ان نذكر، ان هذه المبادرات تعد أنموذج للدول النامية، وهي نتيجة سياسات عامة ذات أهداف محددة تنطلق من خطة طويلة الأجل متناغمة مع أهداف رؤية المملكة 2030، والتي جعلت الرقمنة ضمن أهم ركائزها الأساسية. من المتوقع أن تتباين إنجازات الدول على صعيد الاقتصاد الرقمي حيث أن بعضها ومنها المملكة تمكنت من قطع شوطاً ملحوظاً قياساً بغيرها، بسبب تفعيل السياسات الداعمة، وتوفر البنية التقنية الاساسية المناسبة. لذا نجد أن هذه الإنجازات تنبع من إجراءات عملية مثل إطلاق سياسة الاقتصاد الرقمي وإطلاق مشروعات البيئة التنظيمية التجريبية للتطبيقات الرقمية والتقنيات الناشئة. كما تجدر الإشارة إلى مرونة البنك المركزي السعودي في منح العديد من التصاريح مؤخراً لشركات الخدمات المالية الرقمية مما يمثل تشجيعاً للتوسع في نشاط التقنيات المالية.

وعلى الرغم من التحديات التي تواجه الاستفادة من مزايا الاقتصاد الرقمي في الدول الفقيرة لأسباب هيكلية واجتماعية، إلا أن هذا لا يعني انعدام التجارب الناجحة في هذه الدول، لا سيما في تلك التي تبنت سياسات تشريعية مرنة ونالت دعم المانحين والمنظمات الدولية. ففي دولة غانا يتم السماح باستخدام بطاقات دفع الكترونية للكهرباء من الطاقة الشمسية الموزعة في المناطق النائية، وكذلك انتشار تطبيقات هاتفية تسهل من استفادة أسر منتجة في اندونيسيا من منصات التجارة الكترونية والتحويلات البنكية رغم اقامتهم في قرى بعيدة ومعزولة.

الخيار المتاح للدول النامية في المدى المتوسط يكمن في رقمنة القطاعات المالية والبنكية والتعليم وغيرها، وذلك بدعم ومشاركة حكومية بافتراض وجود القناعة الفردية والمجتمعية بالمكاسب الناجمة عن الاقتصاد الرقمي. وتتحقق هذه المكاسب في مجالات مهمة مثل الاحتواء الاجتماعي الذي يضمن مشاركة الأفراد وتحسين جودة الحياة، وخلق فرص عمل جديدة لهم، كما هو متاح في نظام المشاركة المتبع في شركات السيارات المؤجرة. كما يمكن لمؤسسات الأعمال الاستفادة من التجارة الكترونية تحت نظام ضريبي واضح، مع تحقيقها الكفاءة في استغلال رأس المال مع تحسن في إنتاجية العمال.

تحقيق هذه المكاسب ليس امراً مؤكداً، لوجود عدد من المحاذير منها امكانية انتهاك خصوصيات الافراد نتيجة حصول جهات وشركات عديدة على معلوماتهم والتي قد تستأثر بها لدوافع تجارية. وبالرغم من أن الحصول على هذه المعلومات قد يتم قانونياً إلا أن هذا لا يضمن عدم إساءة استخدامها مما يتطلب وجود رقابة الكترونية نظامية، والتي بدورها قد لاتكون فعالة خصوصاً وأن البيانات تنتقل عبر الحدود بين دول متباينة في تشريعاتها. كما قد تتحقق الأتمتة على حساب مصلحة العمال سواءً بالتخلي عنهم لضعف مهاراتهم التقنية أو على الأقل تركهم بدون تطوير لهذه المهارات مما يزيد من بطالتهم. بالإضافة إلى ذلك، فإنه من الممكن أن تؤدي الكفاءة الاقتصادية الناتجة من الرقمنة إلى خلق وفورات حجم، ولكن في ظل قوانين صارمة في حماية الحقوق الفكرية للابتكارات من المحتمل أن يزيد التركز السوقي وتتراجع المنافسة.

ولكي تستفيد الدول النامية من إيجابيات الاقتصاد الرقمي فقد يتطلب الأمر تبني سياسات عامة ابتكارية، بما في ذلك إمكانية اعتبار خدمات الانترنت من سلع النفع العام وذلك لوجود آثار خارجية إيجابية لها، بسبب فشل آليات السوق في توفيرها للجميع مما يستدعي مساهمة الحكومات في تقديمها. كما أن الدول الفقيرة بحاجة ماسة الى المزيد من المساعدات المالية الخارجية الموجهة لتلبية متطلبات الاقتصاد الرقمي، حيث أن نسبة 1% فقط من مجموع مساعدات المنظمات والمانحين الدوليين تخصص لهذا الغرض حالياً. زيادة هذه النسبة يدعم ربط هذه الاقتصادات بالسوق الدولي وتوفير مصادر التمويل اللازم لبنية أساسية تدعم التجارة الالكترونية، والتي بدورها تسهم في احتواء الشباب وتمكين النساء في المناطق النائية خاصة. من الضروري ان تسعى الدول التي تعاني من ضعف قطاعها الخاص الى ابرام شراكات بين القطاعين العام والخاص في مجال التجارة الالكترونية مع تحفيز المنشآت الصغيرة للاستفادة منها. ومع إدراك أهمية الاعتبارات الثقافية لبعض الدول، إلا أنه من المطلوب أن تتحلى تشريعاتها بالمرونة في تعاملها مع انتقال البيانات، وتبادلها عبر الحدود دون التضحية بخصوصياتها وهويتها الوطنية والحماية الرقمية، مع الاستمرار في تشجيع التجارة المحلية والخارجية.