د. أحمد بن ناصر الراجحي
السلع العامة الدولية “اللقاحات انموذج”
من مقالات أمين مجلس إدارة جمعية الاقتصاد السعودية د. أحمد بن ناصر الراجحي في صحيفة مال | 02 ديسمبر 2021م
على الرغم من نجاح الاقتصاد العالمي في تجاوز الجزء الأكبر من تبعات الصدمة الاقتصادية الناجمة عن تفشي جائحة كوفيد 19، الا ان الضرورة تقتضي تواصل الجهود الدولية لإزالة ما ترسب من أثر الجائحة وتحوراتها المتكررة، والاهم مساعدة الدول الفقيرة في الحصول على اللقاحات المطلوبة ليس لدوافع انسانية فقط، بل لكون اللقاحات تقدم منافع (سلع) عامة لجميع الدول.
يُعد وجود السلع العامة أحد أشكال فشل آلية السوق في تخصيص الموارد بشكل أمثل، حيث ينتج السوق في هذه الحالة كميات أقل مما ينبغي جراء امتناع القطاع الخاص عن تقديم سلع وخدمات معينة رغم أهميتها للمجتمع، نتيجة للتباين بين التكاليف الخاصة والعامة. تتصف السلع العامة بسمتين أساسيتين؛ أولهما عدم التزاحم بمعنى أن استهلاك شخص ما لا يقلل من استهلاك الآخرين منها، والسمة الثانية؛ عدم الاستبعاد، بمعنى أنه بمجرد توفر السلعة لا يمكن منع الآخرين من الحصول عليها. من هذا المنطلق، تعد اللقاحات الضرورية لمكافحة جائحة كورونا من السلع العامة (الدولية)، حيث أن تحقيقها مستوى حماية صحية على نطاق واسع يشكل منافع، ولكن في المقابل عدم توفرها يشكل كارثة صحية وضرر اقتصادي شامل.
بدأت جائحة كورونا من مدينة ووهان الصينية كما يذكر في ديسمبر 2019 وانتشرت بسرعة الى جميع قارات العالم، مما جعل تأثيرها ينعكس سلباً على قطاعات مهمة من الاقتصاد العالمي ، ومنها انهيار الطلب على النفط ووصول سعر عقوده في أبريل 2020 لمستويات “سالبة” في الولايات المتحدة الامريكية. وبعد سنتين من هذه التجربة الانسانية القاسية، مازلت الجائحة تهدد صحة المجتمع الانساني بسبب قدرة الفيروس على التطور والتحور، كما برهنت تجربتي الهند وبعض الدول الأفريقية مؤخراً. هذه التحورات تشكل مخاطر مستمرة على الأمن الصحي للمجتمعات الفقيرة ذات البنية الصحية الهشة وغير المهيأة للتعامل معها.
اللافت، انه في الوقت الذي حصل فيه مواطني الدول الغنية على ثلاث جرعات مضادة للفيروس لم تتمكن الغالبية المطلقة من مواطني الدول الفقيرة من الحصول على جرعة واحدة.؟! حيث تشير دراسات الى أن 70% من جرعات اللقاح المستخدمة حتى الآن كانت من نصيب مواطني أغنى خمسين دولة في العالم، بينما حصل مواطني أفقر خمسين دولة على نسبة 1% فقط.
لا شك في ان الفشل في تأمين اللقاح لمواطني الدول الفقيرة قد تترتب عنه نتائج صحية كارثية وتبعات باهظة الثمن على الاقتصاد العالمي وحركة التجارة الدولية، بما في ذلك تداعيات سلبية على اقتصاد الدول الغنية. الدول النامية ليست معزولة جغرافياً عن بقع العالم الأخرى وبالتالي فان تفشي الأوبئة فيها سيكون مضراً على السياحة الدولية وحركة السفر والتنقل والتجارة. فقد بينت دراسة لغرفة التجارة الدولية صدرت مؤخراً، الخسائر المالية المترتبة عن عدم حصول مواطني الدول الفقيرة على اللقاح تفوق (على أقل تقدير) 200 مليار دولار امريكي، وهذه التكلفة الهائلة تفوق تكلفة صناعة اللقاحات وتوزيعها دولياً حتى لو نجحت الاقتصادات المتقدمة في تطعيم جميع مواطنيها!
الجدير بالذكر ان اللقاحات لن تقضي على الاوبئة او تمنع تطورها، لكنها بكل تأكيد فعالة في كبح جماح الاوبئة، وقادرة على الحد من انتشارها، وتقليل خسائرها البشرية والاقتصادية. ما يثير القلق أن تأثير جائحة كورنا قد يستمر لفترة ليست بالقصيرة بسبب صعوبة معرفة سلوك الفيروس وتعقب متحوراته. الأمر الذي يتطلب قدراً عالياً من التنسيق بين المنظمات الدولية والسلطات الصحية الوطنية، وتهيئة سبل التصدي والمعالجة وتعزيز المناعة الجماعية للحد من اتساع انتشار هذه الجائحة المكلفة صحياً واقتصادياً مستقبلاً.
من المسلم به، أن جائحة كورونا – كوفيد 19 – شكلت أزمة إنسانية واقتصادية، نجم عنها وفاة الملايين من البشر وتعطل حركة المواصلات الدولية، وارتفاع أسعار السلع الضرورية مثل الطعام والمعادن والطاقة بسبب ارتباك سلاسل الإمدادات، ومرور التجارة الدولية بعنق زجاجة في عمليات التوزيع والشحن والذي تضاعفت تكاليفها في غضون شهور قليلة، وانعكست على معدلات تضخم وصلت الى 6% في بعض الدول.هذه التبعات رافقها تردد السلطات النقدية في رفع أسعار الفائدة المنخفضة جداً لصعوبة توقع بدء مرحلة الانتعاش، بالرغم من تهديدات الضغوط التضخمية بسبب تحسن الطلب العالمي على السلع والخدمات.
تجربة الأشهر المنصرمة القاسية برهنت قدرة المجتمع الدولي على تقليل مخاطر الجائحة الصحية والسيطرة على أخطر ازمة اقتصادية شهدها العالم بعد الكساد العظيم. وعلى نجاح المؤسسات الاقتصادية الوطنية في تخفيف عواقب الجائحة عبر تبني سياسات التحفيز المالي والمساعدات المالية العاجلة لضمان ديمومة سلاسل الإمداد وتدفق لأجهزة والمواد الطبية. لذا يمكن القول أن هذه الجهود قد تعاملت مع الجائحة باعتبارها كارثة صحية واقتصادية تعدت الحدود الوطنية، مما يبرز قدرتها في توفير السلع العامة الدولية عندما ترغب بذلك.
أخيراً، لابد من ان نشير الى أن لكل دولة خصوصيتها وأيدولوجيتها وإمكانياتها التي تنعكس على حجم دعمها للجهود الدولية. فتبنى بعضها نظام السوق الحر وتبنى البعض الاخر التخطيط المركزي، سواء بدوافع أيديولوجية او دوافع تنموية قد يؤثر على حجم التزامها بمتطلبات التنسيق الدولي. لذا، فإن نجاح هذه الجهود في دعم الاقتصاد الدولي وتحقيق أهداف التنمية في مختلف مناطق العالم يعتمد على القناعة بوجود منافع مشتركة. كما أن هذا التوجه يرتبط من ناحية بقبول مفهوم “السلع العامة الدولية” مما يشجع المضي قدماً في تعزيز التعاون لتصحيح فشل السوق على المستوى الدولي، ولكن من ناحية أخرى يتطلب الاستفادة من الهيئات شبه الحكومية والمنظمات غير الحكومية. يمكننا القول أن جائحة كورونا قد قدمت دروساً في أهمية التعاون الدولي مما قد يكون له دور إيجابي في تعامل المجتمع الإنساني مع التحديات الاقتصادية والأزمات الصحية المستقبلية.